"الصين هي التحدي الجيوسياسي الأكثر أهمية بالنسبة للولايات المتحدة"، هكذا تُصنف استراتيجية الأمن القومي الأميركية، بكين، لجهة ما يُشكله الصعود الصيني من "صداع" برأس البيت الأبيض، وفي ظل مزاحمتها للحضور والهيمنة الأميركية على عديد من المستويات، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وسط سباق محموم يُهدد النظام العالمي القائم بمتغيرات مفصلية، تنتهي معها حقبة "القطب الواحد" وهيمنة "الدولار".
لكنّ وجهة نظر أخرى، مبنية على تحليلات دقيقة لقصة الصعود الصيني، يعتقد أصحابها بأن بكين ربما بدأت المسار الهبوطي، بحيث لم تعد في عنفوان صعودها القديم.
يتبنى هذا الرأي روتشير شارما، وهو رئيس مؤسسة Rockefeller الدولية، والذي يذكر في مقال له الأحد 19 نوفمبر/ تشرين الثاني، عبر صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية، أن "صعود الصين كقوة اقتصادية عظمى بدأ يتراجع"، وذلك فيما وصفه بـ "المنعطف التاريخي لبكين". ويعتقد بأنه "ربما تكون القصة العالمية الأكبر في نصف القرن الماضي قد انتهت".
اقرأ أيضاً: ماذا بعد زيارة الرئيس الصيني إلى الولايات المتحدة؟
يبني شارما تقديراته استناداً إلى عديد من الحقائق، فبعد الركود في عهد مؤسس جمهورية الصين الشعبية ماو تسي تونج، انفتحت الصين على العالم في الثمانينيات، ثم انطلقت في العقود اللاحقة. وارتفعت حصتها في الاقتصاد العالمي بنحو عشرة أضعاف من أقل من 2% في العام 1990 إلى 18.4% في العام 2021. فيما لم يسبق لأية دولة أن ارتفعت حتى الآن بهذه السرعة.
ثم بدأ التحوّل (الانقلاب)؛ ففي العام 2022، تقلصت حصة الصين في الاقتصاد العالمي قليلاً. وسوف تتقلص هذه النسبة بشكل ملحوظ هذا العام لتصل إلى 17% . وهذا الانخفاض بنسبة 1.4% لمدة عامين هو الأكبر منذ الستينيات.
ويشار إلى أن هذه الأرقام هي بالقيمة الاسمية للدولار، وهو المقياس الذي يصور بدقة القوة الاقتصادية النسبية للدولة.
تهدف الصين إلى استعادة المكانة الإمبراطورية التي كانت تتمتع بها في الفترة من القرن الـ 16 إلى أوائل القرن الـ 19، عندما بلغت حصتها في الناتج الاقتصادي العالمي ذروتها عند الثلث، لكن هذا الهدف -في تصور رئيس مؤسسة Rockefeller الدولية- ربما أصبح بعيد المنال. ويعتقد بأن "انحدار الصين قد يعيد ترتيب العالم".
منذ التسعينيات، نمت حصة بكين من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بشكل رئيسي على حساب أوروبا واليابان، اللتين شهدتا ثبات حصصهما بشكل أو بآخر على مدى العامين الماضيين. والفجوة التي خلفتها الصين تم سدها بشكل رئيسي من قبل الولايات المتحدة وغيرها من الدول الناشئة.
فيما من المتوقع أن ينمو الاقتصاد العالمي بمقدار 8 تريليونات دولار في عامي 2022 و2023 ليصل إلى 105 تريليونات دولار. ولن تحصل الصين على أي من هذه المكاسب، وسوف تمثل الولايات المتحدة 45%، والدول الناشئة الأخرى 50 %.
اقرأ أيضاً: تأسيس 42 ألف شركة جديدة بتمويل أجنبي في الصين بأول 10 أشهر لـ2023
وسوف يأتي نصف المكاسب التي ستحققها الدول الناشئة من خمسة فقط من هذه البلدان، وهي (الهند وإندونيسيا والمكسيك والبرازيل وبولندا). وهذه علامة صارخة على تحولات محتملة في المستقبل.
علاوة على ذلك، فإن حصة الصين المتراجعة في الناتج المحلي الإجمالي العالمي بالقيمة الاسمية لا تعتمد على مصادر مستقلة أو أجنبية. يتم نشر الأرقام الاسمية كجزء من بيانات الناتج المحلي الإجمالي الرسمية. لذا فإن صعود الصين ينعكس من خلال حساب بكين الخاص، وفق الكاتب.
كذلك فإن أحد الأسباب وراء عدم ملاحظة ذلك إلى حد كبير هو أن أغلب المحللين يركزون على نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، والذي يتم تعديله حسب التضخم.
علاوة على ذلك، على مدى العقد الماضي، أصبحت حكومة الصين أكثر تدخلا، وأصبحت ديونها مرتفعة تاريخيا بالنسبة لدولة نامية. بما يؤدي إلى تباطؤ نمو الإنتاجية.
بالقيمة الاسمية للدولار، فإن نمو الناتج المحلي الإجمالي الصيني في طريقه إلى الانخفاض في العام 2023، للمرة الأولى منذ الانخفاض الكبير في قيمة اليوان في العام 1994.
ونظرا للقيود المفروضة على نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، لن تتمكن بكين في السنوات المقبلة من استعادة حصتها العالمية إلا من خلال ارتفاع حاد في معدلات التضخم أو في قيمة العملة. ولكن أياً من الأمرين غير محتمل.
اقرأ أيضاً: ما الذي يعنيه تباطؤ الاقتصاد الصيني بالنسبة للاقتصاد العالمي؟
وتُعَد الصين واحدة من الاقتصادات القليلة التي تعاني من الانكماش، وهي تواجه أيضاً أزمة عقارية تغذيها الديون، وهو ما يؤدي عادة إلى انخفاض قيمة العملة المحلية.
ويسحب المستثمرون أموالهم من الصين بوتيرة قياسية، مما يزيد من الضغط على اليوان. فيما خفض الأجانب الاستثمار في المصانع الصينية والمشاريع الأخرى بمقدار 12 مليار دولار في الربع الثالث - وهو أول انخفاض من نوعه منذ بدء السجلات. السكان المحليون، الذين غالباً ما يفرون من السوق المضطربة قبل أن يفعل الأجانب، يغادرون أيضاً. ويقوم المستثمرون الصينيون باستثمارات خارجية بوتيرة سريعة إلى حد غير عادي ويجوبون العالم بحثاً عن صفقات عقارية.
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي