-مؤرخ أميركي: فشل العقوبات كشف مدى سوء استهانة الغرب بقدرة روسيا الاقتصادية على الصمود
-الروس واسعو الحيلة.. وقد أدى اضطراب العلاقات الخارجية إلى تحفيز الإنتاج المحلي
-موسكو وجدت طرقاً فعالة عديدة للتحايل على العقوبات والاستمرار في استيراد مكونات التكنولوجيا الفائقة
-عالمة سياسة بريطانية: حرب طويلة أمامنا.. بعد أن نجح النظام الروسي في إعادة توجيه الاقتصاد
-مستشار بالأمم المتحدة: موسكو حفزت اقتصادها عبر الصناعات العسكرية مما ساعد في الحفاظ على معدل نمو اقتصادي إيجابي
-جيفري فرانكل: "العمل الجيد الذي قام به المركزي الروسي" أسهم في تقلص أثر العقوبات
-أكاديمي أميركي: التجربة أظهرت أن التطبيق الفعال للعقوبات أمر صعب للغاية.. هناك دائما طرق للتغلب عليها
CNBC عربية- نهى النحاس ومحمد خالد
في العلاقات الدولية تُصنف الأحداث الكبرى إما كأحداث فاصلة ترسم واقعاً مغايراً (أي أن ما بعدها مختلف تماماً عن ما كان قبلها على عديد من الصُعد)، أو أحداث كاشفة تُميط اللثام عن كثير من المعلومات والوقائع التي تُفسّر واقعاً بعينه، وبما يُسهم في بناء تحركات مستقبلية جديدة بناءً على تلك المعطيات.
الحرب في أوكرانيا –التي بدأت عملياً في الرابع والعشرين من شهر فبراير/ شباط من العام 2022 وتدخل الآن عامها الثالث دون أن تلوح في الأفق مؤشرات على تسوية سياسية- هي واحدة من الأحداث الفاصلة والكاشفة في آنٍ؛ فبينما شكلت حداً فاصلاً أسهم في تغيير عديد من الخرائط –خرائط تجارة الغاز على سبيل المثال- كما دفعت إلى إعادة صياغة كثير من العلاقات الثنائية ومتعددة الأطراف في ظل حالة من الديناميكية والسيولة في مسار تلك العلاقات، فإنها في الوقت نفسه كشفت عن عديد من مواطن الخلل بالنسبة لأوروبا على الأقل.
وجد الغرب نفسه أمام معطيات جديدة شديدة التعقيد، نبهته "بشكل عملي" على سبيل المثال إلى خطورة ارتهانه لواردات الغاز الطبيعي عبر الأنابيب من روسيا، ودفعته بناءً على ذلك للبحث عن قنوات جديدة من أجل "فطام" نفسه عن غاز موسكو.
سلاح "العقوبات"
واحدة من الملفات التي كشفتها الحرب هو ما يرتبط بمدى نجاعة سلاح العقوبات الغربية، وهو السلاح الذي راهنت عليه أوروبا والولايات المتحدة الأميركية من أجل إلحاق الهزيمة بموسكو، غير أن الواقع وأرقام الاقتصاد الروسي يرويان حكاية مختلفة تثبت فشل رهانات الغرب، وبما يكشف الكثير من مواطن الخلل في توظيف ذلك السلاح.
بعد عامين من الحرب (أو العملية العسكرية الروسية كما في رواية موسكو)، و13 حزمة من العقوبات الغربية هي الأكثر شراسة، فإن اقتصاد روسيا يبدو كما وأنه لا يبالي ويواصل مسيرته بثبات، على الرغم من التحذيرات بأن هذا الوضع لن يستمر طويلاً.
اقرأ أيضاً: بوتين: الاقتصاد الروسي الأكبر في أوروبا
أرقام النمو تشير وكأن روسيا لا تخوض حرباً او أنها استفادت من الحرب بتعزيز قواها الداخلية؛ فالاقتصاد ينمو بثبات، وموسكو تواصل تصدير الغاز والنفط على الرغم من العقوبات (وإن كان بأسعار أقل)، كما أنها مستمرة في تمويل حربها التي تدخل عامها الثالث وتقوية صناعاتها العسكرية.
الاقتصاد الروسي يتفوق على الأميركي والأوروبي
بلغة الأرقام، تفوق الاقتصاد الروسي على الأميركي والأوروبي في العام الماضي 2023، إذ نما الناتج المحلي الإجمالي بنحو 3.6%، وذلك بعد الانكماش بنحو 1.2% في 2022. وأصبح حجم الاقتصاد الروسي أكبر بنحو 1% مقارنة بمستوياته عشية الحرب.
اقرأ أيضاً: بأقل من التوقعات.. انكماش الاقتصاد الروسي 1.2% في 2022
كما تشير التقديرات إلى أن الاقتصاد الروسي سيواصل النمو في 2024 وإن كان بوتيرة أقل نوعاً ما. ووفقاً لتوقعات الحكومة الروسية فإن الناتج المحلي الإجمالي سيرتفع 2.3% هذا العام وهو مستوى أقل من تقديرات صندوق النقد الدولي عند 2.6%.
وفي أحدث تقديراته، رفع صندوق النقد تقديراته لنمو الناتج المحلي الإجمالي الروسي بنحو 1.5% وهي أكبر وتيرة لأية دولة شملها التقرير، وصولاً إلى 2.6%.
لكن في الوقت نفسه تعاني الصادرات الروسية من العقوبات الغربية، فتراجع إجمالي صادرات موسكو بنحو الثلث في 2023، وبنسبة 68% إلى أوروبا، فيما زاد اعتماد الصادرات والواردات الروسية على آسيا.
كما تواجه روسيا أزمة بسبب ارتفاع التضخم؛ فعلى الرغم أن معدل الفائدة وصل إلى 16% في الوقت الحالي، إلا أن أسعار المستهلكين لا تزال بعيدة عن مستهدف البنك البالغ 4%. وسجل معدل التضحم مستويات 7.4% في ديسمبر/ كانون الأول.
اقرأ أيضاً: انتعاش صافي الدخل 5.4% ونمو الناتج المحلي في روسيا خلال 2023
وأدت زيادة التعبئة في صفوف الجيش إلى مزيد من الضغوط التصاعدية على الأسعار. وأعلنت الحكومة الروسية في ديسمبر/ كانون الأول إلغاء رسوم الاستيراد على البيض بعدما قفزت الأسعار بنحو 40%. لكن في الوقت نفسه، قابل الزيادة في معدل التضخم في روسيا ارتفاع في الأجور، مما قلص من تداعيات ارتفاع الأسعار.
"الحرب تخدم الاقتصاد".. هذا عملياً ما عكسته الحالة الروسية، حيث انتعش الإنتاج المحلي الروسي خاصة على مستوى إمدادات الحرب، فعزز الطلب الصناعات التي تنتج تلك المواد بشكل خاص، في ظل تقييد العقوبات للواردات الروسية.
وعانت روسيا العام الماضي من نقص في العمالة يقدر بـ5 ملايين شخص، في ظل عمليات إعادة تعبئة الجيش، وفرار مليون شخص من البلاد نتيجة لذلك، وارتفع إجمالي الوظائف الشاغرة في البلاد بنحو 6.8% بحلول منتصف 2023.
ونتيجة لذلك انخفض معدل البطالة في روسيا عند مستوى قياسي 2.9% في نوفمبر تشرين الثاني. لكن في مواجهة هذا النقص زادت الأجور والتي تدعم بدورها معدلات الاستهلاك والنمو الاقتصادي.
وبجانب الإنتاج الصناعي، فإن روسيا واحدة من أبرز المنتجين للسلع مثل النفط والغاز الطبيعي والمعادن. وبعكس الكثير من الدول، فإن موسكو تتمتع بالاكتفاء الذاتي عندما يتعلق الأمر بإنتاج النفط والغاز الطبيعي والقمح.
كما كشف فشل الهجوم المضاد الأخير الذي شنته أوكرانيا العام الماضي عن مدى سوء استهانة الغرب بقدرة روسيا العسكرية على الصمود، فإن فشل العقوبات الاقتصادية يكشف عن مدى سوء استهانة الغرب أيضاً بقدرة روسيا الاقتصادية على الصمود"، بحسب ما يؤكده الباحث السابق في وزارة الدفاع الأميركية، روبرت دايفيد إنجليش، وهو مؤرخ أميركي وباحث في العلاقات الدولية متخصص في تاريخ وسياسة أوروبا الشرقية المعاصرة والاتحاد السوفييتي وروسيا، في تصريحات خاصة لـ CNBC عربية.
ويضيف: "الروس واسعو الحيلة، وقد أدى فقدان العلاقات الخارجية إلى تحفيز الإنتاج المحلي.. وقد كان الروس بعيدي النظر، وأعدوا نظام مدفوعات بديلاً في حالة حظرهم من SWIFT"، مردفاً: "إن الروس أذكياء، وقد وجدوا طرقاً لا تعد ولا تحصى للتحايل على العقوبات والاستمرار في استيراد مكونات التكنولوجيا الفائقة التي يحتاجون إليها".
وتمتلك روسيا إمدادات ضخمة من النفط، والتي سوف تشتريها دول أخرى حتى لو اضطرت إلى ترتيب عمليات تأمين وشحن غير غربية. كما تجدر الإشارة أيضاً إلى أن عدداً قليلاً من الدول خارج حلفاء أميركا في حلف الناتو يحاول حتى فرض عقوبات على روسيا. ويبدو أن الغرب استخدم سلاح العقوبات كثيراً في الآونة الأخيرة "حتى أنه فقد فعاليته".
ووفق روبرت إنجليش، وهو أيضاً أستاذ مشارك في السياسة الخارجية الدولية وتحليل الدفاع في كلية العلاقات الدولية بجامعة جنوب كاليفورنيا، فإن الاقتصاد العسكري الروسي يُنتج أيضاً القذائف والصواريخ بشكل أسرع من الغرب، وهذه ببساطة حقيقة لا مفر منها.
وبالتالي، فإنه حتى لو لم يقم الكونغرس بإيقاف المساعدات العسكرية من الولايات المتحدة، فإن ذلك لن يغير من حقيقة مفادها أن روسيا متفوقة في التسليح أمام كييف.
علاوة على ذلك، تعاني أوكرانيا من نقص في القوى العاملة، وهناك تهرب جماعي من التجنيد؛ لأن القليل منهم لا يريدون المخاطرة بحياتهم في قضية محكوم عليها بالفشل. وبالتالي فإنه مع النقص في القوات والأسلحة، ليس هناك أي احتمال لتقدم كبير لأوكرانيا. ويمكنهم ضرب السفن والمستودعات الروسية بطائرات بدون طيار، ما يتسبب في بعض الأضرار. لكنهم لا يستطيعون طرد روسيا من شبه جزيرة القرم ودونباس، بل إن روسيا تتقدم ببطء هناك.
ويضيف: "تواجه القيادة الأوكرانية صعوبة بالغة في التعامل مع خيبة الأمل هذه.. وعلى الرغم من ذلك يقول الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي: في الواقع إن أوكرانيا تنتصر، وقد أقال قائده الأعلى - وهي خطوة تنم عن تبادل اللوم واليأس"، متوقعاً حدوث بعض الاضطرابات السياسية في الأشهر المقبلة، واستمرار القتال على الخطوط الأمامية، إلى أن يتسنى اتخاذ القرار الصعب بـ "بدء محادثات السلام مع روسيا"، وقد يستغرق هذا ستة أشهر أو أكثر.
عامل "الالتفاف على العقوبات" الذي أشار إليه إنجليش في حديثه مع CNBC عربية، يأتي على رأس الأسباب التي دعمت مرونة الاقتصاد الروسي، حيث البدائل التي تمكن من الوصول إليها للتخفيف من وطأة العقوبات الغربية والأميركية.
في محاولة للحد من الأرباح الروسية من النفط، أعلنت مجموعة السبع أن شركات التأمين والسفن الغربية يمكن استخدامها فقط عند شحن النفط بسعر 60 دولاراً أو أقل. لذلك طورت روسيا شبكة جديدة من السفن من أجل الالتفاف حول القيود ومواصلة الشحن للصين والهند.
وبحسب المجلس الأطلسي الذي يتتبع تأثير العقوبات، فإن روسيا تنقل 71% من صادراتها من النفط عبر "أسطول شبحي" يتم إخفاء أصول ملكيته.
كما أظهرت بيانات Windward في سبتمبر/ أيلول الماضي أن هناك 1400 سفينة اسُتخدمت لنقل النفط الروسي في تحد للعقوبات الغربية، وعديد منهم يبحر دون تأمين. وأشار المجلس الأطلسي أيضاً إلى أن معظم البنوك الروسية مستمرة في الوصول إلى نظام سويفت - خدمة مراسلة تربط المؤسسات المالية حول العالم- بما يمكنها من إجراء المعاملات الدولية وتسوية المدفوعات العابرة للحدود.
كما نجحت روسيا في استيراد ما قيمته 900 مليون دولار من تكنولوجيا ساحة المعركة والتكنولوجيا المزدوجة شهرياً في النصف الأول من العام الماضي.
وبحسب الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة في بريطانيا، تحاول روسيا شراء السلع الخاضعة للعقوبات البريطانية عبر دول وسيطة.
وعلى صعيد قطاع السياحة،كشفت صناعة السياحة الروسية أن السياح الروس أجروا 7 ملايين رحلة خارجية في أول 9 أشهر من العام الماضي بزيادة 50% عن مستويات 2022، وذلك إلى دول مثل تركيا ومصر وتايلاند في ظل المصاعب التي تواجههم عند السفر إلى أوروبا.
أما عن الالتفاف على العقوبات التي تستهدف السلع الفاخرة، فإن متاجر تلك السلع ممتلئة بالمنتجات الغربية والتي تأتي من دول ثالثة مثل كازخستان.
وتبعاً لذلك، فلقد أظهرت التجربة أن التطبيق الفعال للعقوبات أمر صعب للغاية، ذلك أن هناك دائما طرق للتغلب عليها"، بحسب ما يؤكده في تصريحات خاصة لـ CNBC عربية، الأكاديمي الأميركي، أستاذ الاقتصاد بكلية ويليامز بالولايات المتحدة، كينيث ن. كوتنر، والذي يشير إلى أنه على سبيل المثال، يمكن استيراد المكونات الإلكترونية المتقدمة من الغرب عبر دول أخرى. ويمكن تصدير النفط إلى الدول التي لا تلتزم بالعقوبات. كذلك يمكن استيراد الأسلحة من كوريا الشمالية. ويشير إلى أن القاعدتان الصناعية والزراعية في روسيا كبيرتان وقويتان إلى حد معقول (وهو ما أسهم في امتصاص أثر العقوبات على الاقتصاد الروسي).
وثمة وجهات نظر مختلفة حول ما إذا كانت العقوبات ستؤثر في نهاية المطاف على الاقتصاد الروسي، ومدى قدرته على مواصلة "المرونة" أو "الصمود"، كذلك تقديرات متباينة لمستقبل الحرب؛ فبحسب كوتنر، فإن الكثير من ذلك يعتمد على السياسة في الولايات المتحدة. ومن دون الدعم الأميركي القوي فإن روسيا، بمواردها وقوتها البشرية، سوف تكون قادرة على إنهاك أوكرانيا ـ
سبب آخر من أسباب تراجع فعالية العقوبات الغربية، هو أنها "تكاد تكون اقتصادية بالكامل ولا تؤثر بشكل مباشر على جيشها"، وفق ما يشير إليه الخبير المتخصص في اقتصاديات الطاقة، مستشار الأمم المتحدة، آدم روز، في تصريحات خاصة لـ CNBC عربية، يوضح فيها أن موسكو تتمتع بقدرة عسكرية كبيرة، وإن كانت متضائلة، والموارد اللازمة لدعمها.
وكان من المأمول أن تؤدي العقوبات التي تؤثر على الاقتصاد العام إلى إضعاف الاقتصاد الروسي وتقويض جهود موسكو العسكرية بطريقة أو بأخرى، لكن هذا نهج غير مباشر ومن غير المرجح أن يكون فعالاً على المدى القصير.
ومن المثير للاهتمام أنه من خلال زيادة إنفاقها العسكري، حفزت روسيا اقتصادها، مما ساعد في الحفاظ على معدل نمو اقتصادي إيجابي.
علاوة على ذلك، تمكنت روسيا من الالتفاف حول العقوبات بعدة طرق رئيسية. على سبيل المثال، زادت مبيعاتها من النفط الخام إلى الهند أكثر من عشرة أضعاف لتصل إلى 37 مليار دولار في عام 2023. وقد فعلت ذلك، في المقام الأول عن طريق إجراء عمليات نقل غير قانونية بين ناقلات النفط.
ويضيف روز، وهو استاذ بجامعة كاليفورنيا الجنوبية أيضاً: إن العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على النفط والسلع الأخرى، مثل الحبوب، تم تعويضها من خلال المشتريات القانونية التي قامت بها الصين من قبل عدد قليل من الدول الأخرى.
ويتحدث في السياق نفسه عن هي العوامل التي أدت إلى "مرونة الاقتصاد الروسي"، قائلاً: تتمتع معظم الاقتصادات بالمرونة إلى حد ما، في قدرتها على تنفيذ تكتيكات مثل استخدام: مخزونات المواد الحيوية والطاقة الفائضة، وتغيير الشركاء التجاريين. ومع ذلك، فإن الجوانب الأخرى من "مرونة" الاقتصاد الروسي قد تكون واضحة ولكنها ليست حقيقية بالمعنى الدقيق للمصطلح. ويعود جزء من المرونة إلى النشاط التجاري غير القانوني.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن زيادة الإنفاق العسكري قد تساعد الاقتصاد على المدى القريب، ولكن سيكون لها تأثير سلبي على المدى الطويل. ومن المرجح أن يكون هناك تراجع بعد تقليص العمليات العسكرية الروسية. ومن ناحية أخرى، فإن استنزاف أموال الاستثمار بعيداً عن مشاريع البحث والتطوير والاستثمار غير العسكري سوف يؤثر سلباً على إنتاجية الاقتصاد الروسي في الأمد البعيد.
اعتمدت روسيا بكثافة على أوروبا كمستورد رئيسي للطاقة، لكن حصة الغاز الروسي المنقول عبر خطوط الأنابيب نحو أوروبا تراجعت من 40% في 2021 إلى حوالي 8% فقط في 2023.
لكن روسيا سرعان ما بدأت البحث عن شركاء جدد لتعويض الغياب الأوروبي، لتظهر الصين والهند كشريكين تجاريين جديدين -خاصة وأن معظم دول آسيا لم تشارك في العقوبات- وشكلت الدولتان حوالي 90% من الدول المستقبلة لصادرات الخام الروسي.
ووصل حجم التجارة الثنائية بين الصين وروسيا إلى 240 مليار دولار في 2023، وهو مستوى قياسي جديد، كما أنه أعلى 26.3% عن المسجل في 2022. وزادت الواردات الصينية من روسيا 13% العام الماضي، فيما قفزت الشحنات الصينية إلى موسكو 46.9%.
كما زادت مشتريات الهند من الغاز الروسي بنحو 13 ضعفاً عما كانت عليه قبل الحرب، وأنعشت المشتريات الهندية الخزينة الروسية بمبلغ قياسي 37 مليار دولار من مشتريات النفط العام الماضي.
وفي تصريحات خاصة لـ CNBC عربية، يشير الاستاذ بكلية كنيدي في جامعة هارفارد، جيفري فرانكل (وهو أحد المشاركين في اللجنة الوطنية للبحوث الاقتصادية التي تضم مجموعة من الأكاديميين، ومكلفة بالإعلان الرسمي عن الركود)، إلى أن روسيا، مثلها كمثل الاتحاد السوفييتي من قبلها؛ دولة تتمتع فيها الحكومة بسيطرة سياسية مشددة إلى حد أنه لا يهم كثيراً ما إذا كان الناس يعانون اقتصادياً، لكنه يُرجع في الوقت نفسه تقلص تأثير العقوبات على الاقتصاد الروسي لعاملين رئيسيين.
العامل الأول، وفق فرانكل، هو ما يتعلق بعمليات التهرب من العقوبات التي نجحت فيها موسكو، بينما العام الثاني مرتبط بشكل مباشر بما وصفه بـ "العمل الجيد الذي قام به البنك المركزي الروسي" في إشارة للسياسات النقدية والمالية وإجراءات السوق التي ابتعتها موسكو في مجابهة تلك الأزمة.
وفي ضوء ذلك، يعتقد الاستاذ بكلية كنيدي في جامعة هارفارد، بأنه "من المحتمل أن تحتفظ القوات الروسية بالسيطرة على جزء من الأراضي الأوكرانية، ولكن ليس كلها"، مشيراً إلى أنه "من المثير للقلق أن الكونغرس الأميركي لم يصوت بعد على المزيد من المساعدات لأوكرانيا".
وهو ما تؤكده أيضاً عالمة السياسة البريطانية، الاستاذة بقسم السياسة والعلاقات الدولية في جامعة أكسفورد، روزماري فوت، في تصريح لـ CNBC عربية، تشير خلاله إلى أن العقوبات أدوات لها الكثير من التحايلات. والآن يتم بيع موارد الطاقة الروسية بكميات أكبر كثيراً إلى الصين والهند؛ وهناك تجارة سرية في موارد الطاقة؛ فالنظام (..) الروسي يجد أنه من الأسهل إعادة توجيه الاقتصاد ووضعه على حافة الحرب واستخدام تدابير غير عادية لتجنيد الأفراد العسكريين (المدانين في السجون، وما إلى ذلك). وبالتالي فإن "حرباً طويلة أمامنا".
تُبرز تلك التحليلات حقيقة الدور الذي قامت به الحكومة الروسية في سياق السياسات المالية والنقدية وما يرتبط بها من إجراءات عملت على الحد من أثر العقوبات، فقد أسهمت المساعدات الحكومية والإنفاق وغيره من السياسات في دعم الاقتصاد الروسي. وقدمت موسكو قروضاً عقارية مخفضة، وقروض مدعومة للشركات.
كما تدخل صانعو السياسة الروسية سريعاً لتحقيق الاستقار للسوق والاقتصاد بعد بدء الحرب، بما في ذلك إغلاق سوق الأسهم لأسابيع، وفرض ضوابط رأس مال وإدارة السياسة النقدية.
وعلى الرغم من الحرب تدخل عامها الثالث، لم تتورط روسيا مع مستويات مرتفعة من الديون، فحقق حسابها الجاري فائضاً في الوقت الحالي.
إضافة إلى ذلك، خصصت حوالي ثلث ميزانية العام الجاري لصالح الإنفاق الدفاعي، وسط تأكيدات أنه لدى روسيا ما يكفي من المال لتمويل الحرب في أوكرانيا لسنوات قليلة مقبلة.
ومع هذه المرونة الذي أبداها اقتصاد روسيا في مواجهة العقوبات، فإن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل بوسع اقتصاد موسكو مواصلة الصمود؟ أم أن العقوبات يُمكن أن تحقق انتصاراً متأخراً؟
في تصريحات لـ CNBC في وقت سابق من الشهر الجاري، قالت مديرة صندوق النقد الدولي كريستينا غورغيفا إن هناك المزيد من المتاعب التي بانتظار الاقتصاد الروسي هذا العام، مشيرة إلى أن الاقتصاد الروسي هو اقتصاد حرب والذي تستثمر فيه الدولة التي كان لديها احتياطي ضخم تم بناءه على مدار سنوات عديدة من الانضباط المالي.
وأضافت: إذا نظرت إلى روسيا اليوم ستجد أن الإنتاج العسكري يرتفع، والاستهلاك يتراجع .. مستويات مرتفعة من الإنتاج ومنخفضة للاستهلاك.
وبالفعل زاد الإنتاج الصناعي في روسيا بأكبر وتيرة في 7 سنوات في نهاية 2023، ويتزامن ذلك مع ضخ روسيا أموال ضخمة في قطاع الدفاع لزيادة الإنتاج العسكري. لكنها مع ذلك فإنها تعاني من تراجع طلبات التصدير الجديدة إذ يتركز الطلب على السوق المحلي.
في الوقت الذي أسهمت فيه الحرب في انتعاش الإنتاج الصناعي في روسيا، فإنها أثرت سلباً على قطاعات مثل التعليم والرعاية الصحية. كما أن روسيا ستخصص حوالي 40% من ميزانية هذا العام لصالح الجيش أي 8% من الناتج القومي.
ووفقاً للمفوضية الأوروبية، فإن للعقوبات تأثير طول الأمد على الاقتصاد الروسي. فهي ترى أن التأثيرات ستزداد حدة مع مرور الوقت إذ أن لتلك العقوبات تأثير طول الأمد.
كما أشار بنك فنلندا إلى أن النمو الاقتصادي الذي يروج له الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يأتي من فروع ذات تكنولوجيا منخفضة نسبياً.
في الوقت نفسه، فإن اعتماد روسيا على الهند والصين في تصدير الطاقة مسألة تنطوي على نقاط ضعف، إذ تسعى الأولى نحو تعزيز العلاقات مع أميركا، فيما ترغب الصين في الحفاظ على علاقات تصديرية قوية مع أميركا وأوروبا، وفقاً لتقرير لمنتدى المؤسسات المالية والنقدية.
وعلى مستوى سوق العمل، تعاني روسيا في الوقت الحالي من تآكل رأس المال البشري بسبب الحرب، وهي مسألة ستضر الإنتاجية الروسية بشكل أكبر في المستقبل.
أما فيما يتعلق بمسألة الالتفاف حول العقوبات، فإنه حتى وإن كانت تلك المسألة تعمل بشكل جيد على الصعيد التكنولوجي، فإن العقوبات لا تزال تلحق الضرر بالاقتصاد، وفق تقرير المنتى الذي أشار إلى أن وجود نقص في قطع الغيار بما يعيق روسيا على مستوى صناعة الطيران وتطوير مجال الطاقة.
ووفقاً لوكالة الطاقة الدولية، من المتوقع تراجع واردات النفط والغاز الروسي بنسبة تتراوح ما بين 40% إلى 50% خلال السنوات السبع المقبلة، إذ لا يتم استبدال المعدات.
كما قد تم تجميد 300 مليار دولار من الأصول السيادية الروسية في الغرب، وتواجه روسيا مخاطر عدم رؤية هذا الإرث مجدداً، إذ سيتم توجيه جزء كبير منه على الأرجح نحو تمويل إعادة بناء أوكرانيا، في سياق "حرب الأصول الجارية" بين موسكو والغرب.
وواجهت روسيا كذلك انخفاضاً في القوة الشرائية من 4% قبل الأزمة المالية العالمية إلى مستويات أقل من 3% حالياً.
اقرأ أيضاً: روسيا تُلوح بـ "رد صارم" إذا ما صادر الغرب أصولها المُجمدة
كما تؤثر معدلات الفائدة المرتفعة على مناخ الأعمال، وكشف مسح في الشهر الماضي أن ثلث الشركات الروسية التي تم استطلاع آرائها في خريف العام الماضي أكدت أنه لم يعد بإمكانها تحمل قروض جديدة بسبب الزيادة في تكاليف الاقتراض. وتتفاقم هذه المشاكل في ظل النقص المزمن في المهارات نتيجة التكلفة البشرية للحرب. ووفقاً لوكالات التوظيف، فإن أكثر من 80% من الشركات الروسية تعاني للوصول إلى العمالة الماهرة والاحتفاظ بها وهو ما يخفض الإنتاجية بدوره.
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي