ضمن خطة تُعيد للأذهان أساليب الحرب الباردة وتستحضر طموحات التوسع الجيوسياسي، يعمل الرئيس الأميركي دونالد ترامب على تنفيذ رؤيته الخاصة للسيطرة على جزيرة غرينلاند، أكبر جزيرة في العالم، عبر حزمة من الإغراءات الاقتصادية والتكتيكات الدعائية، دون اللجوء إلى القوة العسكرية، رغم التلميحات السابقة بذلك.
وبحسب المعلومات التي نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" نقلاً عن مسؤول في مجلس الأمن القومي، فإن الإدارة الأميركية عقدت عدة اجتماعات لصياغة آليات تنفيذية لهذه الخطة، أفضت إلى توجيهات محددة لعدد من الهيئات الحكومية.
وعلى الرغم من أن الخيارات العسكرية لم تُبحث بجدية، فإن طابع الخطة يُعبّر عن استراتيجية مزدوجة؛ الإقناع الشعبي، والضغط السياسي غير المباشر، مع الاستعانة بحملات إعلانية ومحتوى موجه عبر وسائل التواصل الاجتماعي لإقناع سكان الجزيرة، البالغ عددهم 57 ألف نسمة، بضرورة الانضمام إلى الولايات المتحدة.
التراث المشترك!
وتُراهن الإدارة الأميركية على استمالة شعب غرينلاند من خلال سردية "التراث المشترك" مع شعب الإنويت في ألاسكا، الذي تربطه أواصر لغوية وتاريخية عميقة بشعب الجزيرة، بالإضافة إلى تسليط الضوء على ما تعتبره "سوء إدارة" دنماركية لغرينلاند، مقابل وعود أميركية بالحماية والازدهار.
في هذا السياق، بدأ مستشارو ترامب -وفق تقرير الصحيفة الأميركية- إطلاق تصريحات عامة تهاجم الدور الدنماركي، وتُبرز الدور التاريخي للولايات المتحدة في حماية الجزيرة، مستشهدين بدور القوات الأميركية خلال الحرب العالمية الثانية، حين منعت الغزو النازي عبر التمركز في الجزيرة، وهي لا تزال تحتفظ بقاعدة عسكرية هناك حتى اليوم.
اقرأ أيضاً: جزيرة لا تغرب عنها الشمس لمدة شهرين.. لماذا يريد ترامب السيطرة على غرينلاند؟
حوافز مالية
أما الجانب الأبرز في الخطة، فهو الحوافز المالية المباشرة؛ إذ تدرس إدارة ترامب تقديم دفعة سنوية لكل فرد من سكان غرينلاند تبلغ نحو 10 آلاف دولار، ما يُمثل بديلاً عن الدعم السنوي الذي تقدمه كوبنهاغن وتُقدَّر قيمته بنحو 600 مليون دولار.
ويعتقد فريق ترامب بأن هذه النفقات يمكن تعويضها من خلال استثمارات في الموارد الطبيعية غير المستغلة في الجزيرة، والتي تشمل معادن نادرة، ونفط، ونحاس، وذهب، ويورانيوم. ويصر مسؤولون أميركيون على أن القدرات الصناعية والمالية للولايات المتحدة تفوق بكثير قدرة الدنمارك على استغلال هذه الثروات.
لكن هذا الطموح لا يخلو من التحديات. فالوصول إلى تلك الموارد في مناخ قاسٍ، وفي ظل ذوبان جليدي غير مستقر، يبقى معقدًا ومكلفًا. كما أن تزامن الخطة مع تفويض ترامب لإيلون ماسك بخفض تريليون دولار من الإنفاق الفيدرالي يُصعب تسويقها للناخبين الأميركيين.
اقرأ أيضاً: غرينلاند.. روسيا تراقب سعي ترامب للاستيلاء على الجزيرة الدنماركية لهذا السبب
رغم أن اهتمام ترامب بغرينلاند ليس بجديد - إذ طرحه خلال ولايته الأولى، قبل أن يُقابل بالرفض ويُهمش داخلياً - فإن إعادة انتخابه أعادت الحماسة للفكرة. وقال ترامب لمساعديه: "هيا بنا ننجز".
الشراكة من أجل السلام
في هذا الإطار، قام كل من مستشار الأمن القومي مايكل والتز ونائب الرئيس جيه دي فانس بزيارة غرينلاند، حيث عرضا "قضية الشراكة من أجل السلام والازدهار"، وفق تعبير مجلس الأمن القومي.
يتقاطع هذا التحرك الأميركي مع تصاعد التنافس الجيوسياسي في منطقة القطب الشمالي، التي أصبحت أكثر انكشافًا بسبب تغير المناخ، ما يفتح ممرات بحرية جديدة قابلة للاستخدام التجاري والعسكري، ما يضع روسيا والصين كلاعبين محتملين في مواجهة النفوذ الأميركي المتصاعد في المنطقة.
من جانبها، عبّرت الدنمارك عن غضبها الشديد من مساعي ترامب، واعتبرت رئيسة وزرائها ميت فريدريكسن أن "الضغوط والتهديدات" الأميركية غير مقبولة، مؤكدة أن سكان غرينلاند وحدهم من يملك حق تقرير المصير.
أما داخل الجزيرة، فلا تزال الآراء منقسمة. فعلى الرغم من ميل بعض الأحزاب المعارضة لتوثيق العلاقات مع الولايات المتحدة، إلا أنها لم تحظَ سوى بربع الأصوات في الانتخابات الأخيرة. وهذا ما يجعل خطة ترامب معركة شاقة تتطلب تغيير المزاج الشعبي في غرينلاند، الذي لا يزال مرتبطًا بعلاقات قوية مع الدنمارك، رغم طموح الاستقلال الذي يتبناه العديد من القادة المحليين.
ختم ترامب خطابه الأخير أمام الكونغرس بنداء مباشر لشعب غرينلاند قائلاً: "نحن ندعم بقوة حقكم في تحديد مستقبلكم، وإذا اخترتم ذلك، فإننا نرحب بكم في الولايات المتحدة الأمريكية. سنحافظ على سلامتك، وسنجعلك غنيًا".
رغم سخرية البعض من "إمبريالية القرن الحادي والعشرين"، تواصل إدارة ترامب مضيها قدمًا في خطة قد تُغيّر موازين القوى في القطب الشمالي، وتجعل من غرينلاند بوابة جديدة للتوسع الأميركي في زمن المناخ المتغير والتنافس العالمي المتسارع.
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي
ملف تعريف الارتباط هو نص صغير يتم إرساله إلى متصفحك من الموقع الإلكتروني الذي تتم زيارته. ويساعد هذا الملف الموقع الإلكتروني في تذكّر معلومات عن زيارتك، ما يسهّل زيارة الموقع مرّة أخرى ويتيح لك الاستفادة منه بشكل أفضل.