الملاذات الضريبية تستقطب 8 تريليونات دولار .. والعالم يخسر 190 مليار دولار ضرائب في السنة
نشر
آخر تحديث
استمع للمقال
"أنا لم أرتكب أي خطأ".
هذا لسان حال آلاف الأشخاص الذين وردت أسماؤهم في تسريبات "أوراق بنما" التي إعتبرت فضيحة العصر.
الحقيقة التي كشفتها هذه الاوراق أنّ آلاف الأغنياء وأصحاب النفوذ والثروات لم يرتكبوا أيّ مخالفات قانونية فعلية لكن الاوضح أنّ مكتب "موساك فونسيكا" البنمي ساعد الملايين على التهرب الضريبي في وقت كانت عامة الناس تسدد الضرائب المستحقة عليها وفوقها فوائد أو غرامات في حال تأخروا عن دفع هذه المستحقات في وقتها.
وليس إستثمار الأموال وفتح شركات "أوفشور" في ما يسمى "ملاذات ضريبية" خطيئة تحاسب عليها القوانين، لكن من وجهت اليهم الاتهامات هم أشخاص نافذون وسياسيون يقومون بفرض ضرائب على الناس لتحسين ماليات دولهم، وهذا ما أثار العاصفة الهوجاء على رئيس وزراء ايسلندا الذي إضطر للاستقالة ودفع رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون لكشف كل حساباته المالية والمصرفية.
والواقع الذي أظهرته "أوراق بنما" كما يقول محللون عالميون هو هذا الكم الهائل من "المختبئين" في جنات ضريبية من مكتب محاماة واحد في بلد واحد، فما كانت ستكون عليه حقيقة الصورة لو تمّ كشف كامل شبكات السرية المالية؟
ويقدّر الخبير الاقتصادي ومؤلف كتاب "الثروات المخفية للأمم" غابريال زوكمان المبالغ التي يتم تداولها في الملاذات الضريبية بأكثر من 7.6 تريليون دولار تساوي نحو 8% من الثروات المالية الفردية العالمية في 2014، ما أسفر عن تهرب وفقدان عائدات ضرائب للحكومات من أفريقيا إلى أمريكا اللاتينية يقدّر بنحو 190 مليار دولار في السنة.
وبحسب زوكمان فان 80% من صناديق الاوفشور غير مصرح عنها، وهذا ما يؤدي الى هجرة المزيد من الأموال الى الملاذات الضريبية، لكن خبراء آخرين يعتبرون أن تقديرات زوكمان شديدة التحفظ وأنّ الأموال الموستثمرة في الاوفشور تصل الى أربعة أضعاف المبلغ (7.6 تريليون دولار).
وقد فتح تسريب وثائق شركة "موساك فونسيكا" البنمية، التي اعتبرت الأكبر في العالم، لما تتضمنه من 11.5 مليون وثيقة، تظهر قيام عدد من نجوم السياسة والفن والرياضة بإيداع أموالهم في ملاذات مصرفية آمنة عبر شركة "المحاماة، فتح الباب على مصراعيه أمام الحديث عن الملاذات الضريبية الآمنة التي يخفي فيها الأغنياء وأصحاب النفوذ ثرواتهم ومئات المليارات من الدولارات.
ما هي الملاذات الضريبية؟
الملاذات الضريبية وهي دول أو جزر صغيرة تفرض سرية كبيرة على الأموال التي تودع في بنوكها، ولا تقوم بفرض أي ضرائب على هذه الأموال، وفي أسوأ الحالات تقوم بفرض ضرائب منخفضة جدا، فيقوم البعض باستغلال هذه الملاذات لتهريب أو لغسل الأموال أو للتهرب الضريبي.
ويصف البعض عبارة: "لم أقترف أي خطأ" عند الحديث عن شركات الاوفشور بالصادقة، لكنهم يشبهونها بارتداء قبعات شتوية تحت أشعة الشمس الحارة لاخفاء وجوههم، ما يثير شيئاً من الريبة حول مصداقية ما يدعونه.
وشبّه آخرون "أوراق بنما" بالمشهد الأخير لفيلم "Truman Show" حينما لم يدرك بطل الفيلم أنه أمضى ثلاثين عاماً من حياته يعيش ضمن سلسلة تلفزيونية وأن كل ما يدور حوله كان عبارة عن حياة مزيفة واستديو صناعي، فاكتشف ذلك بعدما خرق السماء بمجداف كان يجدف فيه قاربه، وكذلك الأمر بالنسبة "لأوراق بنما" التي تم الكشف عنها، فيُهيأ للرائي بأن تلك الأوراق قد كشفت عن شبكة واسعة من الأسرار المالية، إلا أن ما خفي وراء هذه الأوراق كان أعظم!
وكان تقرير سابق لمؤسسة "أوكسفام" قد إعتبر ان استخدام الملاذات الضريبية من قبل الأفراد والشركات يسهم بشكل كبير في تنامي حالة من عدم المساواة الاقتصادية في جميع أنحاء العالم.
ويصف الخبير الاقتصادي ومؤلف كتاب "الثروات المخفية للأمم" غابريال زوكمان النظام العالمي الذي يقوم بانتهاجه الكثيرون للتهرب من دفع الضرائب بالأمر الذي يمتص الحياة من الدول الغنية والمرفهة في العالم، ويحرم الدول الفقيرة من الموارد التي هم في أمس الحاجة إليها لمعالجة ازمات الفقر التي يعيشونها، فهم في حاجة للاموال لتعليم الأطفال في المدارس وعلاج المواطنين من الامراض التي تودي بحياتهم.
وكتب زوكمان أن الملاذات الضريبية تشكل قضية رئيسية في العديد من البلدان، لاسيما بعد الفجوة الكبيرة التي خلقتها الازمة المالية الكبيرة بين الأغنياء والفقراء، وبين الاقتصادات المتقدمة والناشئة كذلك، وهو أمر يسهم في إثارة المخاوف من نشر حالة من عدم المساواة.
وتجدر الإشارة إلى أن "أوراق بنما" تقدم نظرة ملتوية وواضحة بشكل غير مألوف عن النظام العالمي المتبع للتهرب الضريبي، حيث جاء فيها عشر وجهات تعتبر الأكثر ارتياداً من قبل الهاربين من دفع الضرائب.
إلا أن التوزيع الجغرافي لا يتماشى مع نتائج " Financial Secrecy Index، وهو تصنيف يصدر عن شبكة العدالة الضريبية التي تناهض الملاذات الضريبية، حيث يعتمد مؤشرها على المقياس النوعي بمعنى (درجة السرية) المحيطة بالعملية بأكملها بالاستناد إلى قوانين ومعاهدات تم التصديق عليها وهلم جرا، بالإضافة إلى المقياس الكمي الذي يفيد بإعطاء الزخم الحقيقي والعالمي ومدى ضخامة المراكز المالية المتواجدة في الخارج.
وتشكل هذه البيانات القيم الإجمالية للسرية المالية الخاصة بأكثر من 90 دولة وإقيلماً، أما الهدف منها فهو جدولة هذه الدول بحسب درجة السرية التي تحيط بها الأعلى فالأقل، وهنا يرد مصطلح "الولايات السرية" وهي الدول التي تضم شركات "الأوفشور" حيث يستخدم هذا المصطلح كرديف لمصطلح الملاذات الضريبية.
وتجدر الإشارة إلى أن نقاد هذه القائمة، بما في ذلك "الولايات السرية" المدرجة في اللائحة، تذكر بأن هذا النهج الذي وضعته شبكة العدالة الضريبية يسوده طابع شخصي وصارم.
وأشار المسؤول السابق في منظمة الشفافية الدولية كريستيان هامبورغ إلى أن ترجيح شبكة العدالة الضريبية يميل إلى تسليط الضوء على المراكز المالية الأكبر كالولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وجعلها على رأس القائمة، فقال هامبورغ: " إن وجدت هناك تقديرات موثوقة لحجم التدفقات المالية غير المشروعة في دولة ما، فستكون تلك الأرقام الواردة فيها جديرة بشد انتباهنا."
أما إن لم تتواجد التقديرات الحقيقية لحجم التدفقات المالية غير المشروعة فسيكون المؤشر عبارة عن أداة تزيد القضية تعقيداً لاسيما حينما يتعلق الامر بتصنيف دولة معينة ما إن كانت تنتمي إلى دول الملاذات الضريبية بشكل كلي أم جزئي أم أنها ليست ملاذا ضريبياً على الإطلاق.
وبالاطلاع على الوجهات أو الدول التي تضم شركات "الأوفشور" تبعاً للخريطة ، فنلاحظ بأنه وفقاً لوجهة نظر شبكة العدالة الضريبية، فإن تلك الدول قد كان لها الإسهام الأكبر في التدفقات المالية العالمية التي لا نلاحظها ولا نراها. ( اللون الأحمر الداكن يشير إلى قيم التدفقات العالية ، واللون الأزرق الداكن يشير إلى القيم المتدنية .. قم بتكبير الصورة لتكتشف المناطق المحددة حيث أن بعض الولايات ليست مرئية. )
هناك العديد من الولايات أو الدول التي تضم شركات "الأوفشور"، حيث يرد في الرسم البياني أدناه ترتيبها بحسب الأعلى، لتكون أعلاها مرتبة هونغ كونغ وسنغافورة وجزر كايمان والأراضي الصغيرة التي تصعب رؤيتها وتحديدها على الخريطة
ترتيب الدول الخمس عشرة
وتجدر الإشارة إلى ان شبكة العدالة الضريبية تؤكد على ان الصورة النمطية والتقليدية للملاذات الضريبية غير مفهمومة بشكل صحيح، لاسيما وأن أهم الجهات المسؤولة عن إيواء الأصول المنهوبة عالمياً ليست بجهات صغيرة بشكل عام، ففي الوقت الذي قد تكون فيه هذه الجهات جزراً مليئة بأشجار النخيل، إلا أنها تكون في معظم الأحيان من أكبر وأغنى دول العالم، وتذكر شبكة العدالة الضريبية أن الدول الأعضاء الثرية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وتوابعها هي المستفيدة الأولى والرئيسية من قنوات التدفقات المالية غير المشروعة.
ومن اللافت أن مسؤول ملف الضرائب في المفوضية الأوروبية قد أكد على ضرورة إصدار قائمة سوداء مشتركة لدول الاتحاد الأوروبي، تضم اسماء الملاذات الضريبية في العالم خلال 6 أشهر، في محاولة لإعطاء دفعة جديدة لمشروع وضع قائمة سوداء للملاذات الضريبية، في أعقاب الكشف عن ملايين الوثائق المعروفة باسم "وثائق بنما" والتي تكشف عن طرق تفادي سداد الضرائب من خلال شركات وهمية أو دولية بنظام "أوفشور".
وتكشف "وثائق بنما" التي تم الحصول عليها من خلال شركة المحاماة الموجودة في بنما "موساك فونسيكا" عن تفاصيل نقل الأموال إلى شركات وهمية مسجلة في الملاذات الضريبية بمنطقة الكاريبي لتفادي سداد الضرائب المستحقة عليها.
وشملت قائمة المتورطين في هذه الممارسات سياسيين وأثرياء ونجوم رياضة وشخصيات شهيرة من مختلف أنحاء العالم.
وقال مفوض الشؤون النقدية والاقتصادية والمسؤول عن ملف الممارسات الضريبية في الاتحاد الأوروبي بيير موسكوفيتشي "إن الاحتيال والتهرب الضريبي طاعون اقتصادي"، وجاءت تصريحات موسكوفيتشي للصحافيين أثناء عرضه لخططه المعدة مسبقاً لمكافحة التهرب من ضريبة القيمة المضافة، قائلاً "إن الكشف عن وثائق بنما لا يجب أن تكون مجرد "زوبعة في فنجان".
وأضاف "لا نعرف حتى الآن حجم الأنشطة غير المشروعة من الأنشطة (التي كشفتها الوثائق)، لكن من المؤكد أن الكثير منها حقيقية أولا وغير أخلاقية ثانيا وبكلمة واحدة فهي غير مقبولة".
وتابع "إن حجم الأموال التي ظهرت في الوثائق وأسماء الأشخاص المتورطين فيها كانت صادمة بكل صراحة و"علينا إصدار قائمة مشتركة للملاذات الضريبية لتكون قائمة سوداء على مستوى الاتحاد الأوروبي، وأن نكون مستعدين لضربها بالعقوبات المناسبة إذا رفضت التغيير".
وكانت المفوضية الأوروبي، وهي الذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبي، قد أشارت في يناير (كانون الثاني) الماضي إلى أنها ستصدر قائمة سوداء بالدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي ترفض التعاون مع الحملة الدولية التي تستهدف القضاء على التهرب من الضرائب. وستحل هذه القائمة محل القوائم التي تصدرها كل دولة أوروبية على حدة. وفي يناير الماضي كانت المفوضية تتحدث عن إصدار هذه القائمة السوداء أوائل 2019، لكن موسكوفيتشي يريد الآن إصدار هذه القائمة بنهاية العام الحالي.
البنوك السويسرية
وقررت سويسرا تشديد إجراءات التدقيق على بنوكها بعد تسريبات "أوراق بنما" التي أثارت قلقا عالميا حول إدعاءات بتهرب ضريبي.
وقال رئيس هيئة الرقابة المالية السويسرية "نريد أن نعرف أسماء البنوك التي تعاملت مع الشركة البنمية وما إذا تم حدوث انتهاك للقوانين السويسرية أم لا."
وسويسرا أكبر مركز في العالم لثروات الأوفشور والتي قدرتها مجموعة بوسطن للاستشارات بنحو 2.5 تريليون دولار كأصول أجنبية موجودة في البنوك السويسرية في 2014.
وأطلقت هيئة الرقابة المالية حملة على غسيل الأموال يوم الأربعاء وتدعو الآن السلطات حول العالم إلى وضع معايير لمنع التحايل.
كاميرون والهجوم المضاد
ويخضع رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون لجلسة مساءلة صعبة امام البرلمان حول قضية "اوراق بنما" التي كشفت عن تعاملات مالية له عبر شركات اوفشور بعدما اعلن عن اجراءات لمواجهة التهرب الضريبي.
واجبر كاميرون على الكشف عن بياناته الضريبية للسنوات الست الاخيرة بعد ان اقر بامتلاكه اسهما في الصندوق الاستثماري الذي كان يملكه والده في جزر الباهاماس والذي باعها قبل ان يصبح رئيسا للوزراء في 2010، لكن في اول ظهور له امام مجلس العموم منذ تكشف الفضيحة قبل اسبوع سيضغط نواب المعارضة من حزب العمل على الزعيم المحافظ للكشف عن تفاصيل شؤونه المالية، وتتضمن البيانات المالية لكاميرون راتبه ونفقاته ودخله من ايجار منزل يملكه في لندن ومدخراته.، كما كشف انه تلقى مبلغ 200 الف جنيه استرليني هدية من والدته اضافة الى حصوله على 300 الف جنيه استرليني من وصية والده ما اثار اسئلة حول ما اذا كان الهدف من الهدية تجنب دفع الضرائب.
وامتلك كاميرون وزوجته سامانثا سابقا اسهما في صندوق "بليرمور الاستثماري" الذي كان يملكه والده ايان كاميرون. وورد اسم هذا الصندوق في الوثائق التي سربت من مكتب "موساك فونسيكا" للمحاماة او ما يعرف باسم "اوراق بنما" وباعا الاسهم بقيمة 31500 جنيه استرليني.
والكشف عن تعاملات كاميرون عبر شركات اوفشور تسبب احراجا لرئيس الوزراء الذي يتقدم الجهود الدولية في مجال مكافحة التهرب الضريبي ويستضيف قمة لمكافحة الارهاب في لندن في ايار/مايو.
وفي محاولة لوقف موجة الانتقادات وعناوين الصحف السلبية في بريطانيا اعلن كاميرون نيته اصدار قانون هذا العام يحمل الشركات مسؤولية جنائية في حال لم توقف موظفيها عن تسهيل التهرب الضريبي، وقال في بيان ان "هذه الحكومة بذلت جهودا اكثر من اي حكومة اخرى لمكافحة الفساد بكل اشكاله وسنواصل هذه الجهود".
وواجهت الخطط التي طرحت العام الماضي انتقادات من محامين وخبراء محاسبة حذروا من انها يمكن ان تجرم الشركات التي قد تنتهك القانون دون علمها وربما تضر بالقطاع المالي في بريطانيا.
ولم يكشف كاميرون عن بياناته الضريبية الا بعد ايام من اصدار بيانات جزئية حيث اقر السبت أنه كان بامكانه التعامل مع الوضع بشكل افضل، معلنا عن تشكيل فريق جديد لدراسة "اوراق بنما" وقال مسؤولون انهم ياملون في الاتفاق على اجراءات شفافية جديدة مع المناطق البريطانية قبل قمة ايار/مايو.
كما يتعرض كاميرون لضغوط للتشديد على مناطق الاوفشور الخاضعة لنفوذها مثل الجزر العذراء البريطانية وجزر الكيمان وهي ملاذات ضريبية كان لها دور كبير في التعاملات التي كشفت عنها اوراق بنما.
"موساك فونسيكا" والسلطات الصينية
وفي الصين كان مكتب "موساك فونسيكا" للمحاماة معروفا جدا لدى السلطات قبل كشف فضيحة "اوراق بنما"، وكان يتعاون بصورة وثيقة مع السلطات والمصارف الرسمية للمساعدة على تحقيق استثمارات دولية.
فمكتب المحاماة البنمي المتخصص في تأسيس شركات الاوفشور، والذي كان وراء الفضيحة الاخيرة، ناشط في الصين منذ 2000 حيث اقام علاقات وثيقة على اعلى المستويات مع ثاني اقتصاد عالميا بحسب نسخ قديمة من موقعه على الانترنت متوافرة على موقع المحفوظات الالكترونية "اركايف دوت كوم".
ولهذا المكتب حاليا فرع في هونغ كونغ وسبعة مكاتب في البر الصيني فيما فتح في السنوات الـ 16 الاخيرة عددا كبيرا من المكاتب 11 مكتبا على الاقل في الصين التي تشكل سوقه الرئيسي اغلق بعضها لاحقا.
لكن قبل انكشاف الفضيحة كان اسم المكتب مجهولا في اوساط مكاتب المحاماة الدولية للاعمال في الصين على ما افادت مصادر تنشط في هذا القطاع.